الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (38- 41): {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}وقوله: {لكنا هُوَ الله رَبِّي} معناه: لكن أنا أقول هو اللَّه ربِّي، وروى هارون عن أبي عمرو «لَكِنَّهُ هُوَ اللَّهُ رُبِّي»، وباقي الآية بيِّن.وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ...} الآية: وصيَّةٌ من المؤمن للكافر، {وَلَوْلاَ}: تحضيض بمعنى هلا، و{مَا} تحتمل أن تكون بمعنى الذي بتقدير: الذي شاء الله كائنٌ، وفي {شَاءَ} ضميرٌ عائد على ما، ويحتمل أن تكون شرطيةً بتقدير: ما شَاءَ اللَّهُ كَانَ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هو ما شاء اللَّهُ، أو الأمر ما شاء اللَّه.وقوله: {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله}: تسليمٌ، وضدٌّ لقول الكافِرِ: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} [الكهف: 35]، وفي الحديثِ: إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، إِذَا قَالَهَا العَبْدُ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: «أَسْلَمَ عَبْدِيَ واستسلم»، قال النوويُّ: ورُوِّينا في سنن أبي داود والترمذيِّ والنسائي وغيرهما، عن أنس قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ يَعْنِي- إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ- باسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيت، وَوُقِيتَ، وتَنَحَّى عَنْكَ الشِّيْطان» قال الترمذيُّ: حديث حسن، زاد أبو داود في روايته: «فَيَقُولُ:- يَعْني الشِّيْطَانَ لِشَيْطَانٍ آخَرَ- كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِي» انتهى. وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة، قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أكْثِرْ مِنْ قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ؛ فإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» انتهى.قال المحاسبيُّ في رعايته: وإِذا عزم العْبدُ في القيامِ بجميعِ حقوق اللَّه سبحانَهُ، فليرغَبْ إِليه في المَعُونَةِ مِنْ عِنْدِه على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقَلْب راغِبٍ راهبٍ؛ أني أَنْسَى إِن لم تذكِّرني، وأعْجِزُ أُنْ لم تُقَوِّني، وأجْزَعُ إِنْ لم تصِّبرني، وعَزَم وتوكَّل، واستغاث واستعان، وتبرَّأ من الحَوْل والقوَّة إِلا بربِّه، وقطع رجاءه مِنْ نفسه، ووَجَّه رجاءه كلَّه إِلى خالقه، فإِنه سيجدُ اللَّه عزَّ وجلَّ قريباً مجيباً متفضِّلاً متحِّنناً. انتهى.قال ابنُ العربيِّ في أحكامه قال مالكٌ: ينبغي لكلِّ مَنْ دَخَل منزله أنْ يقول كما قال اللَّه تعالى: {مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} انتهى.وقوله: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} هذا الترجِّي ب عَسَى يحتملُ أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخِرَةِ، وتمنِّي ذلك في الآخرة أشرَفُ وأذهَبُ مع الخير والصلاح، وأنْ يكونَ ذلك يرادُ به الدنيا- أذْهَبُ في نِكَاية هذا المخاطَب، والحُسْبان العذاب؛ كالبردِ والصِّرِّ ونحوه، والصَّعيد وجه الأرض، والزَّلَق: الذي لا تثبت فيه قَدَم، يعني: تذهب منافعها حتى منفعةُ المشْيِ فهي وَحَلٌ لا تثبُتُ فيه قَدَمٌ..تفسير الآيات (42- 44): {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}وقوله سبحانه: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ...} الآية: هذا خبر من اللَّه عزَّ وجل عن إِحاطة العذابِ بحالِ هذا المُمَثَّل به، و{يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}: يريد يضَعُ بطْن إِحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهِّف المتأسِّف.وقوله: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} يريد أن السقوف وَقَعَتْ، وهي العروش، ثم تهدَّمت الحيطانُ عليها؛ فهي خاوية والحيطان على العُرُوشِ.* ت *: فسرَّ * ع * رحمه اللَّه لفظ {خَاوِيَة} في سورة الحَجِّ والنَّمْل ب خالية، والأحسن أن تفسَّر هنا وفي الحجِّ بساقطة، وأما التي في النْمل، فيتَّجه أن تفسَّر بخالية وب ساقطة قال الزبيدِيُّ في مختصر العَيْن خَوَتِ الدَّارُ: باد أهلها، وخَوتْ: تهدَّمت انتهى، وقال الْجَوْهَرِيُّ في كتابه المسمَّى ب تاج اللُّغِة وصِحَاحِ العَرَبِيَّةِ: خَوَتِ النجومُ خَيًّا: أمحَلَتْ، وذلك إِذا سقطَتْ ولم تُمْطِرْ في نَوْئِهَا، وأَخْوَتْ مثله، وخَوَتِ الدارُ خُوَاءً ممدوداً: أقْوَتْ وكذلك إِذا سقطَتْ، ومنه قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ} [النمل: 52] أي: خاليةً، ويقال: ساقطة؛ كما قال: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [الحج: 45] أي ساقطة على سقوفها. انتهى وهو تفسيرٌ بارعٌ، وبه أقولُ، وقد تقدَّم إِيضاحُ هذا المعنى في سورة البقرة.وقوله: {ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} قال بعض المفسِّرين: هي حكايةٌ عن مقالة هذا الكافِرِ في الآخرة، ويحتملُ أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلولِ المُصيبة، ويكون فيها زَجْرٌ لكَفَرة قريشٍ وغيرهم، والفئة: الجماعة التي يُلْجأُ إِلى نَصْرها.وقوله سبحانه: {هُنَالِكَ} يحتمل أنْ تكون ظرفاً لقوله: {مُنتَصِراً} ويحتمل أنْ يكون {الولاية} مبتدأ، و{هُنَالِكَ}: خبره، وقرأ حمزة والكسائيُّ: {الوِلاَيَةُ}- بكسر الواو-، وهي بمعنى الرِّيَاسَة ونحوه، وقرأ الباقون: {الوَلاَيَة}- بفتح الواو- وهي بمعنى المُوَالاَة والصِّلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو والكَسائيُّ: {الْحَقُّ} بالرفع؛ على النعت ل الولايةُ وقرأ الباقون بالخفضِ على النعْتِ ل {لِلَّهِ} عزَّ وجلَّ، وقرأ الجمهور: {عُقُباً}- بضم العين والقاف- وقرأ حمزة وعاصم- بسكون القاف- والعُقُب والعُقْب: بمعنى العاقبة..تفسير الآيات (45- 48): {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}{واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} يريد حياة الإنسان، كما أنزلناه من السماء {فاختلط بِهِ}، أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماءِ، {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} أصبح عبارة عن صيرورته إِلى ذلك، والهَشِيم المتفتِّت من يابس العُشْب، و{تَذْرُوهُ} بمعنى تفرِّقه، فمعنى هذا المَثَل تشبيهُ حالِ المَرْء في حياته ومالِهِ وعزَّته وبَطَره، بالنَّبات الذي له خُضْرة ونَضْرة عن الماءِ النازل، ثم يعودُ بعد ذلك هشيماً، ويصير إِلى عُدْم، فمن كان له عَمَلٌ صالح يبقى في الآخرةِ، فهو الفَائِزُ.وقوله سبحانه: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} لفظه الخبر، لكنْ معه قرينة الصِّفة للمال والبنين؛ لأنه في المَثَلِ قَبْلُ حَقَّر أمْرَ الدنيا وبيَّنه؛ فكأنه يقول: المال والبنون زينةُ هذه الحياة الدنيا المحقَّرة، فلا تُتْبِعُوهَا نُفُوسَكُمْ، والجمهور أنَّ {الصالحات}. هي الكلماتُ المذكورُ فضْلُها في الأحاديث: «سُبْحَانِ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للَّهِ، ولاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ»، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به من لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالحَاتُ». وقوله سبحانه: {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي: صاحبها ينتظرُ الثَّواب، وينبسطُ أمله، فهو خَيْرٌ من حال ذي المَالِ والبنينَ، دون عَمَلٍ صالحٍ، وعن أبي سعيد الخدريِّ؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» قيلَ: وَمَا هُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ وَالحَمْدُ للَّهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّة إِلاَّ باللَّه» رواه النسائيُّ وابنُ حِبَّان في صحيحه انتهى من السلاح.وفي صحيح مسلم عن سَمُرة بن جُنْدُبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «أحَبُّ الكَلاَمِ إِلى اللَّهِ تَعَالى أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إله إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أكْبُرُ لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ»، وفي صحيح مُسْلِم، عن أبي مالِكٍ الأشعريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الطُّهوُرُ شَطْرُ الإِيمَانِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ أَو تَمُلأُ مَا بَيْنَ السموات والأَرْضِ...» الحديث انتهى.قال ابن العربيِّ في أحكامه: وروى مالكٌ عن سعيد بن المسيَّب، أنَّ الباقيات الصالحات قولُ العبْدِ: اللَّهُ أكْبَرُ، وسبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إِله إِلا اللَّه، ولا حَوْلَ ولاَ قوَّة إِلا باللَّه وروي عن ابْنِ عباس وغيره؛ أن الباقياتِ الصَّالحات الصَّلواتُ الخَمْس. انتهى.* ت *: وما تقدَّم أولى، ومن كلام الشيْخِ الوليِّ العارف أبي الحَسن الشَّاذِليِّ رضي اللَّه عنه قال: عليك بالمطهرِّات الخمس في الأقوال؛ والمطهِّرات الخمس في الأفعال، والتبرِّي من الحول والقَّوة في جميع الأحوال، وغُصْ بعقلك إِلى المعاني القائمة بالقَلْب، واخرج عنها وعنه إِلى الرَّبّ واحفظِ اللَّه يحفظْك، واحفظ اللَّه تجدْهُ أمامك واعبد اللَّه بها، وكُنْ من الشاكرين، فالمطهِّراتُ الخمس في الأقوالِ: سُبْحَانَ اللَّه، والحمدُ للَّهِ، ولا إله إِلا اللَّه، واللَّهُ أَكبر، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه، والمطهِّراتُ الخَمْسُ في الأفعال: الصلواتُ الخمْسُ، والتبرِّي من الحول والقوة: هو قولُكَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا باللَّه.انتهى.وقوله سبحانه: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً}: يحتمل أن الأرض؛ لِذَهَابِ الجبال، والضِّرابِ والشَّجَرِ- بَرَزَتْ، وانكشفَتْ ويحتملُ أن يريد بُرُوزَ أهلها من بطنها للحِشَرْ، والمغادَرة: الترك، {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًّا}، أي: صفوفاً وفي الحديث الصحيح: «يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفاً يُسْمِعُهُمُ الدَّاعي، ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ...» الحديث بطوله، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِائَةٌ وعِشْرُونَ صَفًّا، أنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا». وقوله سبحانه: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ}: يفسِّره قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنكُمْ تُحْشَرُونَ إِلى اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً {كَمَآ بَدَأْنَا أوَّلَ خَلَقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]..تفسير الآيات (49- 50): {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}وقوله سبحانه: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ...} الآية: {الكتاب} اسم جنس يراد به كُتُب النَّاس التي أحصتها الحَفَظة لواحدٍ واحدٍ، ويحتمل أن يكون الموضوع كتاباً واحداً حاضراً، وباقي الآية بيِّن.وقوله سبحانه: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} قالت فرقة: إبليسُ لم يكُنْ من الملائكَةِ، بل هو من الجِنِّ، وهم الشياطينُ المخلوقون من مَارِجٍ من نارٍ، وجميعُ الملائكة إنما خلقوا من نورٍ، واختلَفَتْ هذه الفرقةُ، فقال بعضهم: إِبليس من الجنِّ، وهو أولهم وبَدْأَتُهم، كآدمَ من الإِنس، وقالت فرقة: بل كان إِبليس وقبيلُهْ جِنًّا، لكن جميع الشياطين اليَوْمَ من ذريته، فهو كُنوح في الإنس، واحتجُّوا بهذه الآية.وقوله: {فَفَسَقَ} معناه فخرج عن أمر ربِّه وطاعته.وقوله عزَّ وجلَّ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} يريد: أَفتَتَّخِذُونَ إِبليس.وقوله: {وَذُرِّيَّتَهُ}: ظاهر اللفظ يقتضي المُوَسْوِسين من الشياطين، الذين يأمْرُون بالمنْكَر، ويحملون على الأباطيل.وقوله تعالى: {بِئْسَ للظالمين بَدَلاً} أي: بدل ولايةِ اللَّه عزَّ وجلَّ بولاية إِبليس وذريته، وذلك هو التعوُّض من الحقِّ بالباطلِ..تفسير الآيات (51- 53): {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}وقوله سبحانه: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض...} الآية: الضمير في {أَشْهَدتُّهُمْ} عائدٌ على الكُفَّار، وعلى النَّاس بالجملة فتتضمَّن الآية الرَّدَّ على طوائف من المنجِّمِين وأهْل الطبائعِ والمتحكِّمين من الأطبَّاء، وسواهم مِنْ كل من يتخرَّص في هذه الأشياء، وقيل: عائدٌ على ذرية إِبليس، فالآية على هذا تتضمَّن تحقيرَهُم، والقولُ الأول أعظم فائدةً، وأقول: إنَّ الغرض أولاً بالآية هُمْ إِبليس وذريته، وبهذا الوجْه يتَّجه الردُّ على الطوائف المذكورة، وعلى الكُهَّان والعربِ المصدِّقين لهم، والمعظِّمين للجنِّ، حين يقولون: أعُوذُ بِعَزِيز هذا الوَادِي، إِذ الجميع من هذه الفِرَقِ متعلِّقون بإِبليس وذريته، وهم أضلُّ الجميع، فهم المرادُ الأول ب {المضلين}، وتندرج هذه الطوائفُ في معناهم، وقرأ الجمهور: {ومَا كُنْتُ}، وقرأ أبو جعفر والجحْدَرِيُّ والحسن، بخلافٍ {وَمَا كُنْت}، والعَضُد: استعارة للمعين والمؤازر، {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَاءِيَ} أي: على جهة الاستغاثة بهم، واختلف في قوله: {مَّوْبِقاً}، فقال ابن عباس: معناه مهلكاً، وقال عبد اللَّه بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد: {مَّوْبِقاً} هو وادٍ في جهنَّم يجري بدَمٍ وصديدٍ. قال أنس: يحجز بين أهل النار وبَيْن المؤمنين.وقوله سبحانه: {فَظَنُّواْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا}، أي: مباشروها، وأطلق الناس أنَّ الظنَّ هنا بمعنى اليقين.قال * ع *: والعبارة بالظَّنِّ لا تجيء أبداً في موضع يقينٍ تامِّ قد قَالَهُ الحَسَن بل أعظم درجاته أن يجيء، في موضع متحقِّق، لكنه لم يقع ذلك المظْنُونُ، والاَّ فمذْ يقع ويُحَسُّ لا يكادُ توجَدُ في كلامِ العربِ العبارةُ عنه بالظَّنِّ، وتأمَّل هذه الآية، وتأمَّل كلام العرب، وروي أبو سعيد الخدريُّ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الكَافِرَ لَيَرى جَهَنَّمَ، ويَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً»، والمَصْرِف: المَعْدِل والمَرَاغ، وهو مأخوذ من الانصرافِ من شيء إِلى شيء..تفسير الآيات (54- 59): {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} {الإنسان} هنا يراد به الجنْس، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العمومِ في مروره بِعَلِيٍّ لَيْلاً، وأمْرِه له بالصلاة بالليل، فقال عليٌّ: إنما أنفُسُنَا يا رَسُولِ اللَّهِ بِيَدِ اللَّهِ، أو كما قال، فخرج صلى الله عليه وسلم، وهو يضربُ فَخِذَه بيده، ويقول: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً}.وقوله سبحانه: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الهدى...} الآية: {الناس}، هنا يراد بهم كفَّار عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و{سُنَّةُ الأولين}، هي عذاب الأمم المذكورة في القرآن، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً}، أي: مقابلةً عياناً، والمعنى: عذاباً غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيمِ، وقد وقَعَ ذلك بهم يَوْمَ بدرٍ، وكأنَّ حالهم تقتضي التأسُّف عليهم، وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إِلى الخُسْران- عافانا اللَّه من ذلك-.و{لِيُدْحِضُواْ} معناه: يُزْهِقوا، والدَّحَض: الطين.وقوله: {فَلَن يَهْتَدُواْ إِذاً}: لفظ عامٌّ يراد به الخاصُّ ممن حتم اللَّه عليه أنه لا يِؤمن، ولا يهتدي أبداً، كأبي جهل وغيره.وقوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} قالت فرقة: هو أَجَلُ الموتِ، وقالت فرقة: هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يَوْمَ بَدْرٍ والحَشْر.وقوله سبحانه: {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً}، أي: لا يجدون عنه منجًى، يقال: وَأَلَ الرَّجُلُ يَئِلُ؛ إِذ نجا، ثم عقَّب سبحانه توعُّدهم بذكْر الأمثلة من القَرى التي نَزَلَ بها ما تُوُعِّدَ هؤلاء بمثله، و{القرى}: المدن، والإِشارة إِلى عادٍ وثمود وغيرهم، وباقي الآية بيِّن.قال * ص *: وقوله: {لَمَّا ظَلَمُواْ} في {لَمَّا ظَلَمُواْ}: إِشعارٌ بعلَّة الإِهلاك؛ وبهذا استدلَّ ابن عُصْفُور على حرفية {لَمَّا}؛ لأن الظرف لا دلالة فيها على العِلِّيَّة.
|